” لا لن أسامج ابنتي “

جلسَ الحاجُ مرزوق على المقهى الشعبيِّ بحي مصر القديمة

بالقاهرة ، وقد أخرجَ دخانَ الشيشةِ الكثيفَ ، حيثُ شَردَ مع
مذياعِ المقهى وصوت حليم يشدو: اشتقتُ إليك فعلمني
أن لا أشتاق.. علمني كيف تموت الدمعةُ في الأحداق..

وتَذكَّرَ وحدته بعد زواج ابنته الوحيدة وما جرى معها من خصام امتدَّ لثلاثة أعوامٍ ، ثم أعقبه وفاة زوجته ،

بعد زفاف ابنته بشهرين ، وقد لمعت عيناه بدمعةٍ أبَتْ أن تَنزلَ ؛ فتريحَ القلبَ المُثقلَ ببراكينِ الهموم

وبينما هو شاردٌ عن الدنيا وما فيها إذا بابنته الوحيدة أمام المقهى تَستعطفه بعيونها الدامعة ، لكنه لوَى وجهه بعيداً عنها ، وراحَ يَسدُّ أذنيه عن سماع توسلاتها ؛ حتى يَئسَتْ وانطلقتْ بعيداً عن العيونِ يُشيِّعُها خذلانُ أبيها، ورفضه للتصالح معها.

عادَ الحاجُ مرزوق لشُروده ، وأخذ يُناجي نفسه بما حدثَ
مع ابنته وصدمته فيها:

كنتُ موظفاً بسيطاً ، فالتحقتُ بعمل إضافيٍّ بالعمل سائقاً لتاكسي حتى أستطيعَ شراء كل ما يَلزم لزواج ابنتي حتى تمَّ زواجُها وودَّعتُها لبيت زوجها بدموعي.
ثم توفيت زوجتي وأصبحتُ وحيداً أعتمدُ على نفسي في

كل شيء مع شيخوخةٍ لاتَرحم مُسِناً مثلي

وذات يومٍ ذهبتُ لزيارة ابنتي، فإذا بي أسمع مِن الشارع

نواحها وصراخها العالي؛ فأسرعتُ لشقتها فوجدتُ زوجها يَصفعُها ويَضربُها بقسوة ، فلم أتحملْ كأب رؤية ابنتي وهي تُضرَب، وأنا أبوها الذي لم يَضربْها أبداً ، فكيف بزوجها يضربها !!

وهنا كانت الصاعقة عندما صرخَتْ فيَّ ابنتي ونهرتني عن عتاب زوجها قائلةً: مالك أنتَ
وزوجي؟.. اذهبْ عنا ولاتخربْ بيتنا ، وطردتني شرَّ طردةٍ ، فخرجتُ وأنا بغاية الذهول كاتماً دمعي، وسِرتُ شارداً في الشارع أتسائل: هل هذه هي ابنتي التي ربيتُها، وكنتُ أحملها على ظهري صغيرةً ، وكانت أسعدَ لحظاتي عندما أرجع مِن عملي حاملاً لها قطعة الشيكولاتة؛ فأرَى فرحة وجهها البريئ وهي تحتضنني وتقبلني .. ماذا جرى للدنيا؟!.. وظلت دموعي تَسيل كاللهيب لتزيدَ حرقة القلب الحزين، وقد عافت نفسي الطعام والشراب ،
ظللتُ حبيساً في داري لاأحدَ يُواسيني ولا أجد مَن يَسأل عني ، ثم خرجتُ مِن وحدتي وأخذتُ أقضي معظم يومي على المقهى ، لعلي أتسلى ببعض أحاديث الناس حولي .

وبعد شهرينِ مرَّا عليَّ كعامينِ فُوجئتُ بابنتي تأتي للمقهى؛ لتعتذرَ لي عما بدر منها، لكنَّني شعرتُ بأنَّها لم تَعُدْ ابنتي بل شخصاً غريباً لاأعرفُه ، وكرهتْ نفسي سماعَ صوتها ؛ فوجدتُني أسدُّ أذني كي لاأسمعَ صوتها

الذي يؤذي روحي .

ومرَّت ثلاثُ سنواتٍ وابنتي تُحاولُ فيها كل فترةٍ أنْ تأتيَ لتصالحَني، ولكنَّ نفسي لازالت تأبَى أنْ تُسامحَ كلما تَذكَّرتُ لحظةَ أنْ طردَتني مِن منزلها .

قصة قصيرة
بقلم: سمير البولاقي