مفهوم الحرية عند “سارتر”


دكتور/ حسين علي
أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

ارتبط اسم الفيلسوف الفرنسى «جان بول سارتر» (1980 – 1905) بالوجودية Existentialism، و«الوجودية» هى أسلوب أو طريقة فى التفلسف، أو بتعبير أكثر دقة؛ هى وجهة نظر من الإنسان والمجتمع والكون. لكن رغم ما قد يكون هناك من تباين واختلاف فى وجهات نظر «الوجوديين»، فإنه تتوافر فى الطريقة التى «يتفلسفون بها» سمات مشتركة. وهذه السمات المشتركة فى أسلوب التفلسف عندهم هى التى تسمح لنا بأن نطلق عليهم اسم «الوجوديين».
وإذا أردنا أن نبحث عن السمات العامة التى يتميز بها أسلوب الوجوديين فى التفلسف، فسوف نجد أولى هذه السمات، وأكثرها وضوحًا، هى أن الوجودية كفلسفة تبدأ من الإنسان لا من الطبيعة. إذ ينظر الوجوديون إلى الإنسان بوصفه موجودًا لا بوصفه ذاتًا مفكرة فقط (كما قال ديكارت)، والتركيز على أهمية الوجود يعنى أيضًا أن المرء لا يستطيع أن يضع «طبيعة» أو «ماهية» للإنسان، ثم يبدأ فى استنتاج ما يترتب على هذه الطبيعة الإنسانية من نتائج. وربما كانت هذه الرؤية الوجودية للمشكلة هى التى تعطى لهذه الفلسفة طابعها المميز. إن وجود الإنسان – عند الوجوديين – يسبق ماهيته، وهذا معناه أن الإنسان يوجد أولًا، أى يخرج إلى الدنيا، وينخرط فى العالَم، ثم يعرف نفسه فيما بعد، فالإنسان حين يخرج إلى الدنيا لم يكن شيئًا. إنه سوف يكون على نحو ما يصنع من ذاته. فالأفعال التى أقوم بها، والمواقف التى اتخذها، والأفكار التى اعتنقها هى التى تحدد «ماهيتي»، أى تحدد مَنْ أنا.
الوجودية، كأية فلسفة أخرى، بل كأى إنتاج آخر سواء أكان ماديًا أم معنويًا، لا يكتمل فهمها وسبر أغوارها إلا إذا نظرنا إليها من خلال بيئتها التى عاشت فيها ولقيت نجاحًا وانتشارًا. ولئن كان هذا المنهج فى تناول النظريات أو الفلسفات ضروريًا، ولا غنى عنه، فإن ضرورته فى حالة الفلسفة الوجودية عند «سارتر» تبدو أوضح وأشد لزومًا. فلقد انتشرت وجودية «سارتر» بين المثقفين الفرنسيين انتشار النار فى الهشيم عقب احتلال ألمانيا لفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية. فإذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من خلال إطارها التاريخي، فسوف نعرف كيف أنها جاءت احتجاجًا ضد العبودية، ودفاعًا عن الحرية، ولكنها تتضمن فهمًا معينًا للعبودية والحرية، فهذه الفلسفة ترفض كل ما من شأنه أن يضطر الفرد إلى فعل معين، سواء أكان ذلك باسم قيم عليا أخلاقية أم سياسية، أو باسم التقاليد أو حتى باسم الضرورة الواقعية.
والوجوديون يقررون أن إثبات الحرية للإنسان ليس معناه أنه يمارس هذه الحرية فعلًا، ولكن معناه أنه يمكنه أن يكون حرًا إذا أراد، وليس فى صميم بنائه ما يمنعه من ذلك، وليس فى الواقع الخارجى ما يغرى بالتنازل عن هذه الحرية، فالواقع الخارجى – فى رأيهم – تافه والحياة الإنسانية نفسها تافهة، ففيم الارتباط بشىء وتفضيله على سائر الأشياء. إننا غرباء فى هذا الكون، ولا شىء فيه يأبه لرغبتنا أو حاجاتنا. يقول «بسكال» Pascal: «عندما أشاهد تعاسة الإنسان وتخبطه، وأرى الكون كله أبكم، وأشاهد الإنسان فى غير نور يهتدى به، بل متروكًا لنفسه كالضال فى هذا الركن من الكون، لا يعلم مَنْ وضعه ولا ما جاء هنا ليفعله، ولا ما سيئول إليه أمره إذا مات، وعندما أرى أنه عاجز عن كل معرفة، عند ذلك يعترينى الذعر كما يعترى رجلًا حُمِلَ نائمًا إلى جزيرة مقفرة مخيفة، فاستيقظ من نومه لا يعلم أين هو؟ ولا يجد أية وسيلة للخروج من هذه الجزيرة. عندما يفتح المرء عينيه على هذه الحقيقة ويراها هكذا عارية، يتبين عن يقين حتمية ألا يعتمد سوى على نفسه».
كان «سارتر» يردد دائمًا إن الحرية هى قَدَر الإنسان. فالإنسان محكوم عليه بالحرية لأن الحقيقة الإنسانية لا يمكن تعريفها إلا فى حدود الإمكان والحرية. والواقع أن الحرية الإنسانية شىء «مريع» حقًا لأنها حرية مطلقة وغير مشروطة. وليس فى إمكان الإنسان أن يختار بين أن يكون حرًا أو غير حر، لأن الحرية هى التى تشكل ماهيته وجوهره. إنه ليس كائنًا تتحكم فيه قوى النفس اللاشعورية، كما يظهر فى نظرية «فرويد». وهو أيضًا ليس كائنًا تتحكم فيه القوى الاقتصادية الاجتماعية، كما يظهر فى نظرية «ماركس» عن التاريخ. وإنما على العكس من ذلك؛ فإن الإنسان فى فلسفة «سارتر» هو ما يفعله، أى أنه حرية خالصة. وليس هناك حرية غير تلك التى يملكها الإنسان الفرد، فهو حر شاء أم لم يشأ. فعلى الإنسان أن يختار؛ وحتى إن رفض الاختيار، فهو قد اختار أن لا يختار. فحين يتنازل الإنسان عن حريته لهيئة ما أو لمؤسسة أو لمجتمع، كما هو الحال فى المجتمعات العربية والإسلامية، فإنه إنما يمارس فى ذلك حريته فى قبول حالة الذل والعبودية والاضطهاد.
والإنسان عند «سارتر» يثبت وجوده عن طريق الفعل، فالفعل هو محاولة لتغيير الحالة الراهنة، وليس أى سلوك يسلكه الإنسان يُعَد فعلًا، فقد نرى الكرسى يقع أو إنسانًا ينزلق فهذا سلوك وليس فعلًا؛ لأن الفعل قدرة على تغيير أوضاع تؤثر فى عالَم الموجودات، وقد يضيق نطاق الفعل وقد يتسع، قد يكون تحية عابرة وقد يكون معركة يذهب ضحيتها سكان مدينة بأسرها. و«سارتر» لا ينظر إلى قيمة الفعل بما يترتب عليه من نتائج، وإنما المهم عنده أن يصدر الفعل عن حريتنا وعن إرادتنا، فالفعل الإنسانى يفترض الحرية وهو تعبير عنها، وينتهى «سارتر» إلى القول بأن الحرية ليست مجرد صفة للوجود الإنسانى، بل إنها قوام هذا الوجود، وقد يحاول الإنسان أن يهرب من حريته ومسئوليته، يحاول أن ينكر ذاته ويرفض أنه موجود لذاته على حد تعبير «سارتر»، ويسعى لإيهام نفسه بأنه موضوع، وشىء كباقى الأشياء، ولكن مثل هذا الشعور يسميه «سارتر» بخداع النفس أو سوء الطوية. ويتسع مفهوم الحرية عنده ليشمل الشعور والعاطفة بالإضافة إلى الفكر والوعي، وليس هناك شروط لتحديد أى الأفعال أفضل من سواها إلا مقدار صدورها عن حرية فاعلها، وليس هناك أسوأ من حالة التهرب من المسئولية وتخلى الذات عن حريتها حين تقبل كل ما هو جاهز ومعطى لها.