“الواحة الباثقة”

بقلم : إيمان الخطيب

عندما كان العيش بجوار واحة أو سهل هو السبيل للحياة، فالمكوث في ظل كتاب هو كل الحياة، وتبقي مكتبتك هي واحتك الخاصة أينما كنت.
أننا نعشق الأصالة في كل مانفعله ونملكه فإن للكتب أيضاً أصل وتاريخ أسموه” تراث” . هل يعلم أحدنا عن تراثه الادبي شئ؟ أو ماذا كان يفعل السالفين للحفاظ على إبداعهم ويصبح مع مرور العصور ذا قيمة؟ إذاً فلنتجول قليلاً بين الازمان لنرى عظمة أقلام الاجداد.

منذ شرع أهل الجاهلية نشد أشعارهم في سوق عكاز وقد أصبح للعرب واللغة العربية كيان أسمه “الشِعر” يتبارى في ساحته كل عاشق مبدع ويتباهى به كل صاحب موهبة ويُضرب به الامثال بقوة الالقاء أو عذوبة ورقة الكلمات، وقد أشتهر فيهم عنترة بالغزل والعشق لمحبوبته وخرج منهم الاعشي وحاتم الطائي وعمرو بن كلثوم، فتفردوا وتميزوا بجمال اشعارهم.

عند وصول الاسلام لم يقل الشعر عن مكانته بل تحول إلى طريقة لبث الجهاد في نفوس المسلمين ولمدح النبي صل الله عليه وسلم، وحظت تلك الفترة بشعراء اقوياء كشاعر الرسول حسان بن ثابت والخنساء وكعب بن زهير، وجاء الاسلام بفن جديد إضافة للشعر هو” الخطابة” وكان من اشهر الخطباء وعلى رأسهم سيدنا محمد بن عبدالله رسول الله، عمر بن الخطاب، علي بن ابي طالب، فقد كانت تلك العقود زاخرة بفن لازال حتى الان معشوق الجميع وهو الشعر.

زاد العصر الاموي والعباسي من شأن الادب عندما أخرجوا من بطن الشعر أنواع متعددة كالغزل الصريح ورائده عمر بن ابي ربيعة، أما عن الغزل العذري فلنا قول أخر على لسان قيس بن الملوح ومعشوقته ليلى، وكان أبو الاسود الدؤلي أشهر شعراء الذهد فالعصر الاموي كان زخراً للشعر والادب، وكان المتنبي والاصمعي ذو صيت في عصرهم العباسي وكان حكيمهم ابو علاء المعري صاحب بلاغة وحكمة ليس بها منازع، ولن ننسى إبي فراس الحمداني وكان سمات هذا العصر في الشعر قوة الاداء وجزالة الالفاظ وعمق المعاني.

في أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر خرج علينا الأدب بلونين جديدين وهما القصة والرواية والتي برع فيها الكثير وزاد في تلك الحقبة الكُتاب أصحاب الرؤى السياسية والاجتماعية والدينية وعلي رأسهم جمال الدين الافغاني والشيخ محمد عبده والرائع لطفي مصطفى المنفلوطي، وعن الادباء كان ابراهيم اليازخي وناصيف اليازخي وحمزة فتح الله.

ولن ننسى الخطباء الذين كان لصوتهم في الخُطب أثر على المجتمع ولبلاغتهم الراقية أثر على المثقفين كعبدالله النديم والزعيم مصطفي كامل والزعيم سعد زغلول، وكذلك الشعراء اصحاب النظم العريق محمود سامي البارودي، اسماعيل صبري، احمد شوقي وحافظ ابراهيم وهؤلاء كانوا عملاقة لم يأتي مثلهم الكثير.

ورغم مرور عقود طويلة تم الحفاظ علي كل تلك الاصول الادبية بشكل راقي وتناقلها عبر الاجيال بأريحية كبيرة فخرج لنا شكل حواري ثقافي يسمى بالمجالس الادبية والتي تطور اسمها فيما بعد بالصالون الثقافي، الذي عبر الزمن منذ العصر الجاهلي وحتي عصرنا الحالي والمثقفين جميعهم محافظين علي تلك العادة التي تحمل بين طياتها عبق الاصول.

كان أول مجلس ادبي هو سوق عكاز ثم مجالس الادب الاموية والعباسية وكان اشهرهم صالون سيف الدولة الحمداني، مجالس المأمون، عبدالملك بن مروان والشريف المرتضى، أما في الاندلس كان مجلس ولادة بنت المستكفي ليضم بين ذمرته بن زيدون.. لكن القاهرة كانت من ابرز العواصم العربية التي انصبت فيها جهود المبدعين علي مدار التاريخ في إقامة الصالونات الادبية.

مي زيادة صاحبة أشهر صالون أدبي وثقافي والذي دام عشرون عام بلا انقطاع وكان من روادها الاديب عباس محمود العقاد، احمد لطفي السيد، الرافعي، احمد شوقي، خليل مطران وغيرهم، كان يُعقد كل ثلاثاء، أما يوم الجمعة يجتمع المثقفون في بيت العقاد ليقام صالونه الثقافي والذي ضم بين جلساته احمد ابراهيم الشريف، محمد طاهر الجبلاوي، انيس منصور، احمد حمدي امام و عبدالرحمن صدقي.

كانت تلك الصالونات تناقش الفكر والفلسفة والنقد والشعر وكل مايخص الادب، وفي عام 1987 اقام الشاعر الدكتور احمد تيمور صالونه الثقافي والذي كان يناقش مكانة الشعر في مجتمعات التقنية والحداثة ومابعدها، كما حضر له عدد كبير من الاعلامين واساتذة الجامعات والمثقفين ومنهم نادر الطويل، محمد حجي ومحمود الهندي واسماعيل امام.

توالت الصالونات الادبية في الظهور عاماً بعد عام فكان هناك عام 1990 صالون وسيم السيسي وصالون محمد حسن عبدالله، وبعد ثورة يناير 2011 قام الكاتب علاء الاسواني في اقامة صالون أدبي وهو مستمر حتي الان، و صالون الشاعر بشير عياد الذي اقامه منذ عام واحد فقط وهدفه تهذيب الذوق في نواحي الابداع، ومنذ ايام قلائل لم تتخطى شهراً قام بعض الشباب العاشقين للأدب بمدينة الاسكندرية بتدشين صالون ثقافي أدبي أسمه إنسان يعمل على الكاتب الشاب ومساندته من خلال حوار ثقافي يحة الكثير علي الثقافة والاقدام علي حياة الادب بصدر رحب وقلم مستعد دوماً للابداع.

اخيراً نصل الي محطتنا الاخيرة في تلك الجولة الرائقة، فلقد طفنا واحتنا الادبية وشربنا في الجزيرة العربية وركضنا بين الشام ومصر والعراق وأرحنا عقولنا بالاندلس، لننتشي بكل عصر مع مبدعيه ورواده ومشاهيره حتي تعرفنا علي جزء من تراثنا والمجال مفتوح علي مصراعية لمن يريد الابحار اكثر واكثر في تراثنا الادبي “واحتنا الباثقة”.